محاولة للجواب على هذا التساؤل تضمنتها ورقة حضرت مؤخرا للاجتماع التشاوري الذي نظمته اليونسكو في 27 من يوليو الماضي بتونس لصالح دول المغرب العربي حول شرعة أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا في المنطقة العربية.
وبالمناسبة اطلعت بعد عامين من صدورهما على القانون رقم 2016ـ027 المتعلق بالتبرع واحتراث الأعضاء
والأنسجة البشرية الصادر بتاريخ 29 يوليو 2016 وعلى المقرر المشترك بين وزارة الصحة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي رقم 324 الصادر بتاريخ 14 ابريل 2016 والقاضي بإنشاء لجنة أخلاقيات المهنة في مجال البحث الصحي.
وبقدر ما تأسفت على الاطلاع المتأخر على الوثيقتين بقر ما سررت لهما كإنجاز عظيم في موضوع أصبح موضة صاعدة هذه الأيام بعد ما شغل العالم كله منذ إعلان نورمبرغ 1947 وإعلاني هلسنكي الأول والثاني وإعلانات عالمية أخرى تتعلق بمختلف مفاهيم الأخلاقيات أو بمواضيع ذات الصلة مثل حقوق الإنسان؛ وهي الوثائق التي شكلت نقطة تحول بالنسبة للعالم كله وقاعدة صلبة لعمل الدول ومصدر توجيه وإيحاء لها ولتكتلاتها الإقليمية الرسمية وغير الرسمية.
ولا أحد طبعا يمكنه أن يوجه اللوم لدولتنا على وعيها المتأخر بالحاجة إلى استحداث أو تدعيم إطارات مؤسساتية وقانونية تمكنها من توجيه البحوث العلمية والتكنولوجية ومتابعة تطورها وآثار نتائجها المتعددة على التحولات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والبيئية وعلى الكائنات الحية عمامة والنوع البشري (Homo sapiens) خاصة.
إننى شخصيا أرى ما تم 2016 إنجازا يشكل رغم محدوديته خطوة ملموسة في الاتجاه الصحيح ونحو طريق معالمها تبدأ باعتماد رؤية واضحة حول مفاهيم متداولة في هذا الموضوع من أبرزها "الأخلاق" و"الأخلاقيات" و"الأخلاقيات المهنية" و"الأخلاقيات الحيوية" و"أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا".
عندها ستظهر لا محالة الحاجة في سن قانون توجيهي عام تنحدر منه النصوص الأخرى حسب المفهوم المعتمد والمجال أو المجالات المستهدفة: الصحة العمومية، الصحة الحيوانية، التعليم العالي والبحث العلمي... (الأخلاقيات المهنية والأخلاقيات المتعلقة بالبحث العلمي في هذه المجالات وغيرها).
كما ستظهر ضرورة المفاضلة بين خيارين بشأن اللجان التي يجب أن تنجر مؤسساتيا عن القانون التوجيهي المشار إليه أعلاه.
فالخيار الأول هو إنشاء لجنة وطنية تحت وصاية الوزارة الأولى يعهد إليها برسم السياسات في المجال وبتنسيق عمل اللجان التابعة لمختلف القطاعات (تحديد مهامها والمجالات التي تغطيها وعدد وطبيعة الجهات الممثلة فيها والتخصصات التي لا بد من وجود أصحابها ضمن تشكيلتها كخبراء في الفلسفة وعلم الاجتماع ورجال دين).
وأما الثاني فيقتضي التعميم التدريجي للجان متخصصة تابعة للقطاعات المعنية بالأخلاقيات الحيوية مع إمكانية إنشاء لجان على مستوى المؤسسات داخل القطاع الواحد مثل المستشفيات والكليات وجهات البحث في الجامعات ومراكز البحوث في القطاعات الأخري.
والفاحص لما تقدم ذكره لا بد وأن يلاحظ ضرورة إخراج "الأخلاقيات الحيوية" بالذات من المفهوم التقليدي الضيق الخاص بالطب البشري أساسا وذلك من أجل أن تشمل مجالات أوسع لا تقل أهمية بالنسبة لحياة الإنسان وكرامته ورفاهيته.
إنه في النهاية تصحيح لبدايات وتمهيد لخلق وتطوير إطار مؤسساتي وقانوني قادر على ترقية الجهود الوطنية وعلى تسهيل دمجها ضمن ما تقوم به المجموعة الدولية عبر الهيئات المسؤولة عن الأخلاقيات عموما والحيوية خاصة؛ ذلك الإطار الذي سيسهل من خلاله خلق ثقافة حول الأخلاق والأخلاقيات ونشرها بين صفوف المجموعات المستهدفة من أجل أن تصبح طريقة تفكير وسلوكا نمطيا لدى صناع القرار والباحثين وعامة المشتغلين في الحقل وحتى المواطنين البسطاء.
وهو الإطار أيضا الذي يرجى أن يمكن الدولة من تطوير علاقات تعاون وشراكة على المستوى الثنائي ومتعدد الأطراف ضمانا لنقل العلوم والخبرة والتجارب والتكنولوجيا والحصول على التمويل.
إنها عناصر خارطة طريق من المحتمل أن توصف بالحالمة ولكنها تبقى في أعيننا ـ على الأقل ـ طموحا مشروعا نستند فيه على إرادة سياسية حقيقية لدى السلطات وعلى وجود قطاعات وزارية تتوفر على قدرات بشرية مستعدة للعب دور القاطرة بالنسبة لجميع من يهمهم أمر الأخلاقيات الحيوية في القطاعين العام والخاص وفي منظمات المجتمع المدني بموريتانيا.